آخر الأخبار

وفاة فتح الله غولن: نهاية زعيم ديني مثير للجدل وشرارة جديدة للصراع في تركيا


في تطور دراماتيكي يثير الانتباه في المشهد السياسي والإعلامي العالمي، أُعلن عن وفاة الداعية الإسلامي التركي المقيم في الولايات المتحدة، فتح الله غولن، الذي ألهم حركة اجتماعية عالمية وشغل الدنيا بتوجيهاته الدينية والفكرية، بينما واجه اتهامات بالتورط في محاولة انقلاب فاشلة عام 2016 في تركيا. وقد أكدت وفاته عدة مصادر، بما في ذلك وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي أشار إلى أن الاستخبارات التركية أكدت خبر الوفاة.

فتح الله غولن، الذي عاش سنواته الأخيرة في عزلة على مجمع مغلق في جبال بوكونوس بولاية بنسلفانيا الأميركية، كان شخصية مثيرة للجدل على مدار العقود الماضية. قدّر له أن يكون في طليعة الحركات الإسلامية التي تمزج بين الفكر الصوفي التقليدي والحداثة الغربية. كان غولن يدعو إلى التوفيق بين الدين والعلم، ويؤمن بأن الإسلام يمكن أن يتعايش مع الديمقراطية، وأن القيم الإسلامية يمكن أن تتلاقى مع مبادئ التعليم، والعلم، والحوار بين الأديان.

غولن وإردوغان: تحالف قديم وعداء متجدد

بدأ فتح الله غولن كحليف قوي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان. فالحركة التي قادها غولن، والمعروفة باسم "حركة الخدمة" (حركة Hizmet) باللغة التركية، كانت شريكًا أساسيًا لحزب العدالة والتنمية الذي قاده إردوغان إلى السلطة عام 2002. دعمت الحركة إعلاميًا وسياسيًا، وساهمت في تعزيز نفوذ الحكومة التي كانت تحمل توجهًا إسلاميًا.

ومع ذلك، توترت العلاقات بين الطرفين بعد خلافات حول السياسة الداخلية والخارجية لتركيا. وبدأت التوترات تتصاعد بشكل خاص بعد أن اتهمت حركة غولن الحكومة بالفساد في عام 2013. عند هذه النقطة، بدأت الحكومة التركية تنظر إلى حركة غولن باعتبارها تهديدًا متزايدًا، وبدأت بتوجيه الاتهامات لها بمحاولة إقامة "دولة موازية" داخل النظام السياسي التركي.

تحول الصراع بين إردوغان وغولن إلى عداء مفتوح بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو 2016، والتي استخدمت فيها دبابات وطائرات حربية وطائرات هليكوبتر لمحاولة الإطاحة بالحكومة التركية. اتهم إردوغان غولن بأنه العقل المدبر للانقلاب، بينما نفى غولن بشدة هذه الاتهامات، مؤكداً أن التهم التي وجهت إليه سياسية ولا أساس لها من الصحة.

تداعيات محاولة الانقلاب وتصفية الحسابات

محاولة الانقلاب الفاشلة تركت أثراً عميقاً على الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا. استجابت الحكومة التركية بالقضاء على ما وصفته بأنه "دولة موازية" يديرها غولن وأتباعه. أطلقت الحكومة حملة قمع واسعة النطاق، حيث تم اعتقال عشرات الآلاف من الأشخاص المشتبه في ارتباطهم بمحاولة الانقلاب أو بحركة غولن. تم فصل أكثر من 130,000 شخص من وظائفهم الحكومية، بما في ذلك القضاء والشرطة والجيش، وتم إغلاق مئات المؤسسات التعليمية والشركات التي يُعتقد أنها مرتبطة بغولن.

غولن، الذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999 لتلقي العلاج الطبي، كان بعيدًا جسديًا عن هذه الأحداث، لكنه بقي في قلب النقاشات السياسية والدينية في تركيا. رغم محاولات الحكومة التركية المطالبة بتسليمه، إلا أن الولايات المتحدة لم تظهر نية لإعادته إلى تركيا، مشيرة إلى نقص الأدلة الدامغة.

حياة غولن في المنفى: العزلة والتأثير المستمر

في السنوات الأخيرة من حياته، عاش غولن في عزلة نسبية داخل مجمعه في بنسلفانيا. رغم هذه العزلة، ظل تأثيره مستمراً بين أتباعه حول العالم. اشتهر بتصريحاته التي تجمع بين التقاليد الإسلامية والصوفية مع توجهات حديثة نحو الحوار بين الأديان والاهتمام بالتعليم. وقد أسس أتباعه شبكة من المؤسسات التعليمية والخيرية في أكثر من 100 دولة حول العالم، بما في ذلك مدارس تعتمد على الضرائب في الولايات المتحدة.

كان غولن، الذي ولد في محافظة أرزروم في شرق تركيا، شخصية محورية في الفكر الإسلامي الحديث. بدأ حياته كإمام تقليدي لكنه سرعان ما اشتهر بخطاباته التي ركزت على التسامح والحوار بين الأديان. ونجح في اجتذاب ملايين الأتباع داخل تركيا وخارجها بفضل فلسفته التي تدعو إلى التعايش بين الإسلام والعالم الحديث.

ماذا بعد وفاة غولن؟

وفاة فتح الله غولن تفتح فصلًا جديدًا في تاريخ حركة الخدمة. بغياب قائدها، يُطرح السؤال: من سيقود الحركة بعده؟ حتى الآن، لا توجد إجابة واضحة حول مستقبل الحركة، رغم أنها استمرت في العمل على مستوى عالمي حتى مع مواجهة ضغوطات متزايدة في تركيا.

وزير الخارجية التركي هاكان فيدان صرح بأن وفاة غولن "لن تجعلنا نتراخى"، مشيراً إلى أن الحكومة التركية ستستمر في محاربة ما وصفه بـ"المنظمة الإرهابية". هذا التصريح يشير إلى أن وفاة غولن لن تكون نهاية للعداء الذي طالما واجهته حركته في تركيا.

في ختام حياته، بقي غولن شخصية مثيرة للجدل. بينما يراه أنصاره كرمز للتسامح والإصلاح الديني، يراه خصومه كشخص يسعى للهيمنة السياسية. بوفاته، سيستمر النقاش حول إرثه وتأثيره على الإسلام السياسي والحركات الإسلامية في تركيا وحول العالم.

تأثير غولن على الحركات الإسلامية والعلاقات التركية الغربية

لا يمكن فهم تأثير فتح الله غولن دون النظر إلى دوره في تشكيل بعض الحركات الإسلامية الحديثة التي تسعى إلى بناء جسور بين العالم الإسلامي والغرب. دعوته إلى التعليم، والحوار بين الأديان، والتمسك بالقيم الديمقراطية جعلته نموذجًا فريدًا مقارنة بالعديد من التيارات الإسلامية التقليدية. رغم أن الكثيرين ينظرون إليه بعين الريبة، إلا أن حركته نجحت في جذب شرائح كبيرة من المجتمعات الإسلامية، خاصة في تركيا.

من جهة أخرى، أثرت علاقة غولن مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، على العلاقات التركية-الأميركية. اتهامات إردوغان لغولن بالتورط في الانقلاب الفاشل جعلت تسليمه أولوية بالنسبة للحكومة التركية، لكن الرفض الأميركي أدى إلى تفاقم التوترات بين البلدين.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

مع وفاة فتح الله غولن، يُختتم فصل من فصول الفكر الإسلامي الحديث والحركات الاجتماعية الإسلامية. لكن تأثيره سيظل قائماً لفترة طويلة، سواء في تركيا أو على مستوى العالم. إرثه يتضمن حركة تعليمية عالمية وتأثيراً روحياً تجاوز الحدود الجغرافية والدينية.

الأسئلة الكبرى التي تطرح بعد وفاته تدور حول مستقبل حركة الخدمة، وكيف ستواجه التحديات المتزايدة في تركيا وخارجها. هل ستظل الحركة متماسكة أم أن وفاة قائدها ستؤدي إلى انقسامات داخلية؟ هل سيظهر قائد جديد ليواصل إرث غولن، أم أن الحركة ستتراجع مع مرور الوقت؟

في النهاية، يمثل غولن رمزًا للتناقضات التي تواجه الحركات الإسلامية الحديثة: محاولة التوفيق بين القيم التقليدية والتحديات الحديثة، بين الدين والعلم، وبين السلطة والإصلاح.

Post a Comment

أحدث أقدم